د. علي بن صديق الحكمي
فيما يلي بعض التأثيرات النفسية على سلوك المستثمرين في أسواق الأسهم، وهي ملخص لبعض الأبحاث في مجال الاقتصاد السلوكيBehavioral Economics وعلم نفس الأحكام واتخاذ القرار The Psychology of Judgment and Decision Making.
1. حماس المضاربين وسوء التوقيت
تعليقاً على التقلبات الحادة التي حدثت في أسواق الأسهم العالمية مؤخراً، وعزو كثير من المحللين والمستثمرين ذلك إلى التباطؤ في الاقتصاد الصيني، يؤكد عالم الاقتصاد روبرت شيلر Robert Shiller الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ومؤلف كتاب Irrational Exuberance، أن طبيعة الإنسان والعوامل النفسية هي ما يفسر ما يحدث في سوق الأسهم وليس الصين. فهو يرى أن فقاعة المضاربةSpeculative Bubble ترتفع بناءً على "حماس المضاربين" وتفاؤلهم المفرط، وعندما تساورهم الشكوك حول المستقبل، يبدأون بالتفكير في البيع، ولكنهم يفتقدون للوضوح حول التوقيت المناسب للقيام بذلك. وعندما يشاهدون انخفاض في السوق، يتخوفون من أن الآخرين قد تكون لديهم نفس الشكوك كذلك، فيدخلون في سباق معهم: من الذي يبيع أولاً. ولذلك فالهبوط الحاد لأسواق الأسهم قد يحدث بصورة سريعة جداً. كما يشير شيلر إلى أنه حتى المستثمرين الأذكياء كانوا يشترون أثناء الفقاعة المضاربية بأسعار عالية دون اعطاء الاهتمام الكافي للأخطار الممكنة.
2. تأثير العاطفة
تؤثر العوامل العاطفية (حبنا أو كراهيتنا أو تخوفنا من شيء معين) على القرارات التي نتخذها في مختلف المجالات وعلى إدراكنا للمخاطر والمنافع من الخيارات المختلفة. ففي دراسة للحكمي (1991) والحكمي وسلوفيك (1994) وجد أن العوامل العاطفية تؤثر بشكل مباشر على تقديرنا للأخطار والمنافع، حيث توجد علاقة عكسية بين إدراك المخاطر وإدراك المنافع، فعندما ننظر إلى خيار معين على أنه مرتفع المنافع، فإننا ننزع للتقليل من أخطارة، والعكس صحيح. ولا يعود هذا لأسباب عقلانية تعتمد على البيانات والمعطيات، بل تلعب العاطفة دوراً كبيراً في ذلك. فعندما نحب أو نفضل أحد الخيارات، نميل إلى التقليل من أخطاره ومضارة وهكذا. بل أن تقديم معلومات إيجابية عن خيار ما (مثل ما يعمله المضاربون أثنا تحليلاتهم لأسهم معينة، أو أسلوب معين للتداول) يؤثر على تفضيلات الناس وتقديرهم للمخاطر. وقد قام بعض الباحثين بتطبيق النظريات التي تربط بين العاطفة وإدراك المخاطر والمنافع إلى التعاملات في سوق الأسهم، ووجد بالفعل أن التفضيلات العاطفية تؤثر على قرارات الشراء والبيع بعيداً عن الأساسيات. ومن هنا، فإنه وبالرغم من اعتقاد الكثيرين أن نشاط سوق الأسهم هو عقلاني ومنطقي وقائم على التحليل، إلا أن الأبحاث الحديثة في مجال الاقتصاد السلوكي تشير إلى عدم صحة ذلك وإلى التأثير الكبير للعواطف والإنفعالات على ذلك.
3. الثقة المفرطة
في العالم المثالي، ووفقاً للنماذج المعيارية في اتخاذ القرار، فإن مستوى ثقتنا في صواب أحكامنا وقراراتنا يجب أن تتطابق تماماً مع صواب تلك القرار والأحكام في الواقع. فإذا كنا، على سبيل المثال، قد أجبنا على 40 سؤال بشكل صحيح من أصل 50 سؤالاً عرضت علينا، فإن معنى ذلك مستوى ثقتنا في صحة أحكامنا يجب أن يكون 80%. ولكن إذا كان مستوى ثقتناً أعلى من نسبة إجاباتنا الصحيحة، فإن ذلك يدل على أن لدينا ثقة مفرطة في صحة أحكامنا، والعكس صحيح. وقد وجدت الأبحاث أن ظاهرة الثقة المفرطة في الأحكام الاحتمالية موجودة بالفعل في مختلف الثقافات حول العالم وإن كانت تتفاوت في درجتها عبر الثقافات (قام كاتب هذه الورقة بتطبيق دراسة عن الثقة المفرطة على عينة من الطلاب الجامعيين في المملكة ووجد أن ظاهرة الثقة المفرطة موجودة أيضاً، الحكمي 1421هـ).
وجدير بالذكر أيضاً، أن الثقة المفرطة وجدت حتى لدى الخبراء في مجالات شتى (اقتصادية وهندسية، وطبية، وعلمية وإدارية وسياسية وغيرها)، ففي بعض الدراسات وجد أن المهندسين يقعون ضحية للثقة المفرطة في تقديراتهم لمتطلبات مشروع إنشائي أو المدة الزمنية التي يمكن أن ينجز فيها.
وفي أسواق الأسهم، تؤثر الثقة المفرطة على تقديرات المستثمرين والمحللين (أفراداً ومؤسسات) وعلى قراراتهم أو توصياتهم للبيع والشراء نتيجة لذلك. فهم يبالغون في اعتقادهم أن لديهم القدرة على قراءة المعطيات والبيانات الاقتصادية وغيرها وتوظيفها بشكل فعال في أحكامهم، بينما في الواقع ونظراً لأنهم يتعاملون مع درجات عالية من حالة عدم اليقين (Uncertainty) فإن ذلك يحد من دقة تنبؤاتهم المستقبلية. وعلى الرغم من أن حالة عدم التأكد تؤثر في أحكامنا الاحتمالية (ومنها تنبؤاتنا بأسعار الأسهم) بدرجة أو أخرى، إلا أن مستوى ثقتنا في تلك الأحكام لا يأخذ ذلك في الحسبان.
4. الذاكرة والعمليات العقلية
تشير الأبحاث في مجال علم النفس المعرفي إلى تأثر العمليات العقلية لدى الإنسان (كالإدراك، والانتباه والذاكرة، والاستدلال والاستنتاج وغيرها من عمليات التفكير بمستوياتها المختلفة) بنطاق واسع من الأخطاء والتحيزات،Errors and Biases، لخصها نيزبت وروس Nisbett and Ross 1980 في كتابهما الكلاسيكي عن أوجه القصور والتحيزات في الاستدلال والتفكير. ومن أهم العمليات التي تؤدي لأخطاء في التفكير الانتباه الاختياريSelective attention والذي يحدث عندما نواجه كماً متعدداً من المعلومات وننتبه لجزء منها ونتجاهل أجزاء أخرى قد تكون أكثر أهمية. وهذا يعود، بشكل رئيس، إلى محدودية قدرة الإنسان على التعامل مع تلك المعلومات، والاستفادة منها للوصول لاستنتاجات صحيحة. وهذا ما يحصل في أسواق المال، فالمعلومات ذات مصادر متعددة، وأصبحت مع وسائل الاتصال الحديثة تصل بسرعة لا يمكن التعامل معها بشكل كامل، فيتم الانتباه لبعضها، وقد يكون أقل أهمية، وتجاهل المعلومات الأخرى، مما يؤدي لأحكام خاطئة ومتحيزة.
ويعتبر تحيز الإثبات Confirmation bias من أهم التحيزات التي تقود أحكامنا وقراراتنا للخطأ، حيث ينزع الإنسان للبحث عن المعلومات التي تؤكد وتثبت أفكاره المسبقة، وفي نفس الوقت يتجاهل المعلومات التي تناقضها. ويلاحظ هذا التحيز في سلوك المتعاملين في الأسواق المالية بما فيهم المحللين والخبراء، فهم ينزعون في الغالب للبحث عن المعلومات التي تؤكد أفكارهم المسبقة وتؤيد توجهاتهم سواء في منتديات الأسهم، أو شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، بينما يتجنبون المصادر التي قد تتعارض معها. وينطبق هذا أيضاً على متابعة قنوات تلفزيونية أو محللين معينين.
ومن العوامل النفسية ذات العلاقة بالعمليات العقلية المؤثرة على القرارات وإدراك الأخطار (ومنها بالطبع تلك المتعلقة بسوق الأسهم)، ما أطلق عليه كانيمان وتفرسكي اسم استراتيجية الإتاحة، The Availability Heuristic، وهي تعني أن الأحداث البارزة في حياتنا يسهل استدعاءها من الذاكرة وخاصة في السياقات ذات العلاقة، وبالتالي فهي تؤثر على أحكامنا وقراراتنا حتى لو كانت احتمالات حدوثها ضعيفة جداً. فأثناء متابعتنا لانخفاضات أسواق الأسهم، يتبادر للذهن مباشرة الانهيارات التي حصلت عامي 2003 و 2008، وذلك لأنها كانت انهيارات دراماتيكية وقاسية، وبالتالي فإن تذكرنا للك الأحداث بسهولة يعزز من توقعاتنا أن انهيارات مشابهة ستحدث لا محالة، بالرغم من اختلاف العوامل الاقتصادية والأساسيات الآن عنها في تلك الفترتين. وبالتالي يحدث الهروب الجماعي من السوق بناءً على توقعات مستقبلية غير دقيقة اعتمدت على أحداث سابقة (الانهيارين) وتجاهلت المعلومات الحالية.
هذه بعض العوامل النفسية المؤثرة على سلوك المستثمر في سوق الأسهم، وهناك عوامل أخرى سيتم الحديث عنها مستقبلاً بمشيئة الله.